تكاليف الرسوم الجمركية تتجاوز 35 مليار دولار مع تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين
تكاليف الرسوم الجمركية تتجاوز 35 مليار دولار مع تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين
تشهد العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين مرحلة جديدة من التوتر الاقتصادي بعد عودة الخلافات الجمركية إلى الواجهة، ما تسبب في تكبّد الشركات العالمية خسائر تجاوزت 35 مليار دولار خلال العام الجاري فقط، وفق تقديرات مؤسسات مالية واقتصادية دولية. وتعد هذه الأرقام انعكاسًا مباشرًا لتصاعد سياسات الحماية التجارية التي تتبناها واشنطن، والردود المقابلة من بكين، في ظل تنافس محتدم على النفوذ الصناعي والتكنولوجي والمالي.
هذا التصعيد ليس مجرد سجال دبلوماسي بين قوتين اقتصاديتين، بل أزمة تؤثر فعليًا على سلاسل التوريد، حركة الاستثمار، واستقرار الأسواق العالمية. وبينما تحاول الشركات التكيف مع التغيّرات المتسارعة، تتصاعد التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الحرب التجارية الجديدة قد تمهّد لمرحلة ركود عالمي أو إعادة تشكيل للاقتصاد الدولي.
انعكاسات ملموسة على الشركات الكبرى
كشفت تقارير مالية أن عشرات الشركات متعددة الجنسيات (خصوصًا في قطاعات السيارات، الإلكترونيات، والطاقة) تتحمل الجزء الأكبر من هذا العبء المالي الناتج عن الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات الصينية.
شركات مثل تويوتا، فورد، فولكسفاغن، آبل، وسامسونغ واجهت ارتفاعًا في تكلفة المواد والمكوّنات الداخلة في التصنيع، ما أجبرها على إعادة حساباتها الإنتاجية ورفع أسعار منتجاتها في الأسواق الأميركية.
ويرى محللون أن الشركات التي تعتمد على سلاسل توريد عالمية مترابطة هي الأكثر عرضة للأضرار، إذ تواجه تحديًا مزدوجًا: رسوم استيراد مرتفعة من جهة، واضطراب في حركة المكونات بين الدول من جهة أخرى. وهذا ما جعل العديد من المصانع في آسيا وأوروبا تعيد النظر في مواقع إنتاجها لتقليل التعرض للمخاطر المستقبلية.
القطاعات الأكثر تضررًا
قطاع السيارات:
يعد الأكثر تأثرًا، إذ تشكل المكوّنات الصينية نسبة كبيرة من خطوط إنتاج السيارات في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا. الرسوم الأميركية الجديدة على واردات الألمنيوم والصلب، إلى جانب أجزاء المركبات الإلكترونية، رفعت تكلفة التصنيع بمقدار يتراوح بين 10 و15% في بعض الطرازات.
قطاع الإلكترونيات والتكنولوجيا:
الشركات التقنية الأميركية التي تعتمد على مصانع في الصين وماليزيا وكوريا الجنوبية لتجميع الشرائح والمعالجات تواجه بدورها ضغطًا هائلًا، خاصة بعد إدراج بعض الشركات الصينية على "القائمة السوداء" التجارية. هذا القيود دفعت شركات مثل آبل إلى نقل أجزاء من إنتاجها إلى الهند وفيتنام لتخفيف التكاليف.
القطاع الاستهلاكي:
علامات تجارية كبرى مثل "نايكي" و"H&M" اضطرت إلى رفع أسعار بعض منتجاتها في أسواق أوروبا وأميركا لتغطية الزيادة الجمركية، ما أدى إلى تراجع المبيعات في الفئة المتوسطة من المستهلكين.
تحولات في سلاسل التوريد العالمية
تسعى الشركات منذ عام 2024 إلى تبني سياسة "الابتعاد عن الصين"، في محاولة لتنويع مصادر التوريد والحد من المخاطر.
دول مثل فيتنام، إندونيسيا، والهند أصبحت الوجهات البديلة الأكثر جذبًا، نظرًا لتكاليف العمالة المنخفضة وتوافر اتفاقيات تجارية مرنة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لكنّ هذه الخطوات ليست سهلة التنفيذ، فإعادة توجيه خطوط الإنتاج تتطلب سنوات من التخطيط والاستثمار، فضلًا عن أن الصين لا تزال تمتلك بنية تحتية صناعية متقدمة جدًا يصعب منافستها على المدى القصير.
ويرى خبراء أن هذا الاتجاه يعكس تحولًا هيكليًا طويل الأمد في الاقتصاد العالمي، حيث تتجه الشركات الكبرى إلى بناء "شبكات تصنيع متعددة المراكز" بدلًا من الاعتماد على مركز إنتاج واحد، بما يضمن استقرارًا أكبر أمام التقلبات السياسية والاقتصادية.
أثر الرسوم على المستهلكين والأسواق المحلية
لم تقتصر التداعيات على الشركات فقط، بل وصلت أيضًا إلى المستهلكين، حيث ارتفعت أسعار العديد من السلع في السوق الأميركية بنسبة تتراوح بين 3 و7% خلال الأشهر الستة الأخيرة. هذه الزيادة شملت الأجهزة الإلكترونية، الأدوات المنزلية، الملابس، وحتى السيارات.
في المقابل، يواجه المستهلك الصيني أيضًا ارتفاعًا في أسعار السلع المستوردة من الولايات المتحدة، خصوصًا المنتجات الزراعية واللحوم. ويخشى اقتصاديون أن تؤدي هذه الزيادات إلى تراجع القدرة الشرائية وبالتالي تباطؤ النمو الاقتصادي في كلا البلدين.
ردود الفعل السياسية والاقتصادية
تسعى الإدارة الأميركية إلى تبرير هذه السياسات باعتبارها وسيلة لحماية الصناعات الوطنية وتعزيز فرص العمل الداخلية، إلا أن خبراء الاقتصاد يرون أن الرسوم الجمركية تتحول تدريجيًا إلى سلاح سياسي قصير المدى، يضر في نهاية المطاف بالشركات والمستهلكين الأميركيين أنفسهم.
في المقابل، ترد الصين بسياسات انتقائية تشمل فرض رسوم مضادة على المنتجات الزراعية والطاقة الأميركية، إضافة إلى تشجيع الاعتماد على التصنيع المحلي عبر برامج دعم حكومية موسعة. وقد أعلنت بكين مؤخرًا عن استراتيجية "الاكتفاء الصناعي الذاتي" في قطاعات الشرائح الإلكترونية والطاقة المتجددة، ما ينذر بمزيد من الانفصال الاقتصادي بين القوتين.
تداعيات على الاقتصاد العالمي
تجاوز تأثير الحرب التجارية الثنائية بين واشنطن وبكين حدود البلدين، ليطال الاقتصاد العالمي برمّته.
فقد أظهرت بيانات البنك الدولي أن ارتفاع الرسوم الجمركية بنسبة 1% على التجارة العالمية قد يؤدي إلى تراجع النمو العالمي بمقدار 0.3 نقطة مئوية. ومع استمرار التوتر، تتجه بعض الدول إلى إعادة النظر في سياساتها التجارية، محاوِلة التوازن بين الشريكين الاقتصاديين الكبيرين.
كما أن الدول النامية المصدّرة للمواد الخام تواجه ضغوطًا جديدة، إذ يؤدي تراجع الطلب الصناعي في الصين إلى انخفاض أسعار المواد الأولية كالحديد والنحاس، ما يؤثر مباشرة على اقتصادات أفريقيا وأميركا اللاتينية.
خاتمة
في ضوء هذه التطورات، يبدو أن الرسوم الجمركية لم تعد مجرد إجراء اقتصادي، بل تحولت إلى أداة ضغط جيوسياسية في صراع القوى الكبرى على قيادة الاقتصاد العالمي. وبينما تستمر الشركات في البحث عن حلول لتقليل الخسائر، يبقى السؤال المطروح: هل يشهد العالم قريبًا "هدنة اقتصادية" تعيد الاستقرار، أم أن هذه الحرب التجارية ستفتح الباب أمام نظام اقتصادي جديد يقوم على الانقسام بدلًا من التكامل؟
مهما كانت الإجابة، فإن تجاوز حجم الرسوم الجمركية 35 مليار دولار في عام واحد لا يمثل مجرد رقم في تقارير المحاسبة، بل جرس إنذار حقيقي بأن العولمة كما نعرفها باتت على المحك.