الذهب يثبت في منطقة الذروة: بين دعم البنوك المركزية وضبابية المسار النقدي
الذهب يثبت في منطقة الذروة: بين دعم البنوك المركزية وضبابية المسار النقدي
يحافظ الذهب على مكانته كملاذ رئيسي في الأسواق العالمية، إذ لا يزال يتداول قرب أعلى مستوياته التاريخية بعد أن سجل في الأسابيع الأخيرة قممًا جديدة. التوقعات من مكاتب التداول الكبرى ما زالت تشير إلى نطاق سعري يتراوح بين 3,650 و3,950 دولارًا للأونصة حتى نهاية العام، في حين أن مكاسب الذهب منذ بداية 2025 تجاوزت 40% عند أعلى مستوياته الأخيرة.
ورغم بعض محاولات جني الأرباح، إلا أن المعنويات العامة في السوق تبقى إيجابية مدعومة بمزيج من العوامل النقدية والسياسية.
ما الذي يدعم الذهب في هذه المرحلة؟
1. توقعات أسعار الفائدة المنخفضة لفترة أطول
مع تزايد القناعة بأن البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لن تتسرع في رفع الفائدة مجددًا وربما تميل نحو الاستقرار أو التخفيف التدريجي، يستفيد الذهب بشكل مباشر من هذه البيئة. فعندما تتراجع الفوائد الحقيقية، ينخفض العائد النسبي على الأصول النقدية، مما يجعل الذهب خيارًا أكثر جاذبية لحفظ القيمة.
2. مشتريات البنوك المركزية
الطلب الرسمي من البنوك المركزية حول العالم، خصوصًا في الأسواق الناشئة، يستمر بوتيرة قوية. الصين، والهند، وتركيا، ودول من الشرق الأوسط عززت احتياطياتها من الذهب خلال العامين الماضيين كوسيلة للتحوّط من تقلبات الدولار والعقوبات الجيوسياسية.
هذه المشتريات تمثل دعمًا هيكليًا للسوق وتحدّ من أي تصحيحات حادة في الأسعار.
3. علاوة المخاطر الجيوسياسية
العالم يعيش لحظة من الاضطراب السياسي والاقتصادي، من النزاعات الإقليمية إلى التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. هذه البيئة المتوترة تزيد من الطلب على الأصول الآمنة، ولا سيما الذهب، الذي يظل مؤشرًا على القلق العالمي بقدر ما هو أداة مالية.
التحديات والمخاطر المحتملة
لكن الاستقرار الحالي للذهب ليس مضمونًا، فهناك عدة مخاطر قد تؤدي إلى تصحيح سعري:
تراجع التضخم أسرع من المتوقع: إذا أظهرت بيانات الأسعار في الولايات المتحدة وأوروبا تباطؤًا كبيرًا في التضخم، فقد يدفع ذلك المستثمرين إلى تقليص مراكز التحوّط.
عودة قوة الدولار الأميركي: أي ارتفاع حاد في مؤشر الدولار نتيجة بيانات اقتصادية قوية أو تغير في توقعات الفائدة سيضغط عادة على أسعار الذهب المقوّمة بالدولار.
جني الأرباح قبل نهاية العام: بعد مكاسب تفوق 40% منذ بداية 2025، قد يُغري ذلك الصناديق الكبرى وبعض المستثمرين بتقليص مراكزهم لحجز الأرباح، خصوصًا قبيل نهاية السنة المالية.
دلالات السوق وتوزيع المحافظ
استمرار الزخم في الذهب يعكس تحولًا استراتيجيًا في المحافظ الاستثمارية نحو تخصيص أكبر للأصول الواقية من التضخم والمخاطر النظامية.
يلاحظ المحللون أن الصناديق السيادية وصناديق التقاعد تزيد تدريجيًا تعرضها للذهب بنسبة 2–3% من الإجمالي كجزء من "مزيج الحماية" إلى جانب السندات طويلة الأجل والعملات الدفاعية.
في المقابل، أسهم شركات التعدين والعوائد الملكية (royalty companies) تستفيد أيضًا من هذه الموجة، خصوصًا الشركات ذات التكاليف التشغيلية المنخفضة والتي تمتلك مشروعات إنتاجية في مناطق مستقرة. هذه الفئة غالبًا ما توفر رافعة مضاعفة على سعر الذهب، أي أن ارتفاع الأونصة بنسبة 10% قد يرفع أرباحها بـ20–25%.
كيف يقرأ المستثمر الفرد هذا المشهد؟
تنويع ذكي: إدخال الذهب إلى المحفظة ليس بغرض المضاربة، بل كأداة توازن ضد التقلبات المفاجئة في الأسهم أو العملات.
الاستفادة من التراجعات: كل تصحيح طفيف في الأسعار يمكن النظر إليه كفرصة دخول تدريجية، طالما أن العوامل الهيكلية (الطلب الرسمي، السياسة النقدية، المخاطر الجيوسياسية) لا تتغير جذريًا.
تجنب الرافعة العالية: الذهب أصل دفاعي بطبيعته، ولا يُنصح باستخدامه بأدوات مشتقة مرتفعة المخاطر إلا في نطاقات تحوط محدودة.
ما الذي يجب مراقبته في الأسابيع المقبلة؟
بيانات الوظائف الأميركية والتضخم (CPI): أي إشارات إلى تباطؤ في سوق العمل أو انحسار في التضخم ستعزز التوقعات بخفض الفائدة، ما يدعم الذهب.
تدفقات صناديق الـETF: هذه الصناديق تُعدّ مرآة لمزاج المستثمرين المؤسسيين؛ استمرار التدفقات يعني ثقة متجددة في الاتجاه الصاعد.
مراكز العقود المستقبلية (CFTC): ارتفاع المراكز الطويلة (long positions) للمضاربين يشير عادة إلى ميلٍ متزايد نحو الشراء، بينما تقلصها قد يسبق فترات تصحيح.
الخلاصة: ذهب لا يصدأ
مع كل التغيرات في المشهد الاقتصادي العالمي، يظل الذهب أحد أعمدة الاستقرار النفسي والمالي للمستثمرين.
العالم أمام مزيج من سياسات نقدية متساهلة، توترات جيوسياسية، ومخاوف من عودة التضخم أو الركود وكلها بيئة مثالية للذهب.
قد تتبدل الأسعار في المدى القصير، لكن منحنى الثقة الطويل المدى يبقى صاعدًا، مدعومًا بتدفقات رسمية ومؤسسية تجعل من أي تراجع محتمل فرصة أكثر من كونه خطرًا.